الثلاثاء، 18 يونيو 2019

التكفير كمطلب للدولة المدنية




 " من حق المَجْمَع - الكنسي -  أن يفرض الحِرم، لكن المحروم يظل عضوا في المجتمع السياسي" 1
                                                                                                                 
                                                                                                                            "فيليب دو بليسيس مورونيه"

"فإذا كان مزيفو الدراهم أو غيرهم من المجرمين يقضي عليهم عدلُ الولاة العالميين بعاجل الموت، فلأنْ يقضي العدلُ على المبتدعة عند ثبوت ابتداعهم، ليس بعاجل الحِرم فقط، بل بعاجل الموت أيضا، أولى" 2
                     
                                                                                                                                           " توما الأكويني"

تقف أغلب وجهات النظر الداعية للتسامح موقفا سلبيا من خطاب التكفير على اعتبار كونه خطابا يدعو للكراهية، ومن ثم تجب محاربته، إضافة إلى مطالبتها أحيانا بالحد من نشاط الجهات التي تصدر فتاوى التكفير بحق آراء وافكار بعض الأشخاص، هذا من جهة، إلى جانب سعيها من جهة أخرى للدفاع عن هذه الآراء من خلال إيجاد أو خلق مساحات تأويلية في النص تضمن بقاء تلك الآراء ضمن دائرة الدين، جاهدة في الوقت ذاته إلى محاولة إثبات عدم منافاة أو مصادمة تلك الأفكار للدين، من ثم فالتسامح بحسب هذه الرؤية يتنافى مع التكفير، ومن يطلق عبارات التكفير بحق الآخرين هو بالضرورة شخص غير متسامح، وعليه تغدو إدانة التكفير مطلبا أساسيا لتعزيز كل من التسامح والتعددية. بيد أن النقطة التي سوف أحاول عرضها من خلال هذا المقال هي العكس من ذلك، وهو أن التكفير أو السماح بالتكفير هو الخطوة الأولى ذلك. إذ أن إدانة "التكفير" تقتضي إدانة مبطنة للحرية الدينية ورفضا مضمرا لفكرة أن يكون الدين خيارا شخصيا، وتكرس في الوقت ذاته حالة التماهي ما بين الهوية الدينية والهوية السياسية لتضيف بعدا دينيا محددا للدولة، والتي من المفترض أن تكون محايدة في علاقاتها مع مواطنيها بوصفها دولة مدنية.
من الممكن إيجاد وصف عملي لذلك في الجدل الذي كانت قد أثارته رواية الراحل نجيب محفوظ أولاد حارتنا 1962، بسبب ما بدا للبعض من كونها تضمر استهانة بالدين الإسلامي ورموزه، وذلك من خلال توظيفها للرموز الدينية في سياق واقع إجتماعي3. في حين كان جل المدافعين عن الرواية وكاتبها يستندون في دفاعهم على محاولات إثبات عدم مخالفة مضمون الرواية للمحتوى الديني، وعدم وجوب قرائتها قراءة دينية 4 وهو ما حدا بهم إلى الانخراط في عملية مرافعة جماعية لنفي تهمة " لا دينية الرواية" أو معارضتها للدين. 5 وحتى على فرض نجاح تلك المرافعات في الدفاع عن نشر رواية محفوظ، فما ذاك إلا أنها استطاعت إثبات إسلامية الرواية وخلوها من أي ملوثات "لا دينية". وهو ما يضمر إدانة أي نص يفشل في اختبار السلامة أو النقاء الديني.  

قبل كل شيء، لا بد من تقرير فكرة أن دين – أي دين - يقتضي بالضرورة الاعتقاد بمعتقدات معينة تحدد ماهيته العامة، وتُرسم من خلالها حدود الانتماء لهذا الدين عن غيره، إذ لا يصبح للدين معنى بدونها، فقبول الشخص لدين ما ليس أكثر من إقرار من الشخص نفسه البقاء ضمن دائرة المعتقدات تلك. ومن ثم يصبح الخروج عنها خروجا عن الدين ذاته. فثنائية المؤمن والكافر تحددها وضعية هذا الشخص بالنسبة "للمعتقدات المؤسسة" للدين داخل هذه الدائرة أو خارجها. فالإيمان بمعتقدات معينة يتضمن بالضرورة رفضا لما يضادها من معتقدات، فالمؤمن بمعتقد معين هو كافر بما يخالف هذا المعتقد بالضرورة، وإلا لم يكن لإيمانه معنى حقيقا ما دام يؤمن بالمعتقد ونقيضه. وبناء على ذلك فإن وصف الكفر بالنسبة لشخص ما هو وصف لوضعيته خارج دائرة هذا المعتقد. وعلى ذلك يصبح التكفير جزءا أساسيا من أي منظومه دينية، لا يمكن بدونها لأي دين أن يحتفظ بماهيته وحدوده التي تفصله عن بقية الأديان التي تعارضه في مبادئه الأساسية أو "معتقداته المؤسسة". مع ذلك لا يمكن اعتبار التكفير فعلا وصفيا وحسب، بمعني ليس التكفير مجرد إعلان عن مجرد اختلاف وجهات نظر حيال خيارات الشخص العقائدية أو الفكرية إزاء العقائد الأخرى، إلا في حالة تم اعتبار الدين مسألة ذاتيه، بين الفرد ونفسه، وهذا ما لا يقوله التاريخ ولا الدين ولا السياسة. فقد ظل الدين ولازال مشتبكا إلى حد كبير بالسياسة والمجتمع بشكل عام. إذ أنه يعمل على تأسيس بنى وروابط اجتماعيه وسياسيه، يصعب معها اعتباره مسألة أو خيارا شخصيا.
وإذا كان "التكفير" على هذا الأساس حاجة أساسية لأي منظومة دينية، فإن "حرية الكفر" في المقابل تغدو حاجة ضرورية لأي منظومة فكرية حرة. ليس هذا وحسب وبل وحاجه للدين ذاته، إذ ليس ثمة معنى لاعتناق الشخص لدين لا يملك حرية الخروج منه.
بيد أن الإشكالية الأساسية الكامنة في مسألة التكفير ناتجة من حالة الانتقال من المستوى الوصفي إلى المستوى السياسي والقانوني، والناتجة عن التماهي العميق بين المجال الديني وبين كل من المجال السياسي والقانوني، حيث تصبح فيه هوية الشخص الدينية جزءا أساسيا من هويته السياسية والوطنية، الأمر الذي يترتب على أدني تغيرٍ في الموقف الديني للشخص تغيرا في تحديد علاقته بالدولة ذاتها. الأمر الذي يجعل من الخيارات المتعلقة بمواقف تفسر أحيانا على أنها منافيه للدين، ذات تبعات اجتماعية وسياسية باهظة أحيانا. وتعد حالة المفكر الراحل نصر حامد أبو وزيد أحد أهم هذه الأمثلة التي توضح التبعات الاجتماعية على بعض المواقف الدينية، وذلك في الحكم الذي قررته محكمة النقض الصادر في 14 يونيو 1995 والقاضي بالتفريق بين الراحل نصر حامد أبو زيد وبين زوجته ابتهال يونس، على إثر بعض الآراء التي وردت في كتبه والتي تم اعتبارها غير متساوقة مع الدين بل ومناقضة له، وهو ما اعتبر ردة دينيه حكم على أساسها بالتفريق بينه وبين زوجته على أساس استحالة زواج المسلمة من غير المسلم.6
 في ظل مثل هذا الوضع والذي تنعكس فيه مواقف وآراء الشخص الدينية على وضعيته الاجتماعية، يبدو من المبرر أحيانا الدخول في "صراع تأويلي" لتبرير هذا الموقف المدان وإثبات " إسلاميته" ربما، ورفض اتهامات التكفير التي تطاله، وذلك تفاديا للتبعات التي من الممكن أن تنسحب عليه فيما لو ثبتت عدم " اتساقيته"، مع ذلك يبقى التمسك "برفض التكفير" باعتباره الحل الأمثل لهكذا إشكالية هو ما من شأنه ضمان استمراريتها كإشكاليه، وذلك من خلال تكريسه للتبعات القانونية المتعلقة به، معززا في الوقت ذاته من فكرة أن الدين ليس خيارا شخصيا بل حتمية اجتماعية، فكل ما يفعله هذا "الخطاب" في الواقع ليس سوى محاولات تبرير عدم تعارض بعض الآراء "محل الخلاف" مع المنظومة الدينية السائدة، وذلك من خلال البحث في المدونات الدينية عما يبرر اتساقها مع الدين بشكل أو المفهوم السائد له بشكل أخص. دون أن يعمد إلى إلى جعل مسألة الدين خيارا شخصيا، وذلك من خلال العمل على نقد وتفكيك المنظومة القانونية والتشريعية التي تكرس ذلك التماهي ما بين الدين الهوية السياسية.
وإذا كان التسامح لا معنى له بدون وجود اختلاف. وكان الاختلاف الديني المعبر عنه بالكفر هو اختلاف جذري وعميق بحسب التصور الديني، فإن ذروة التسامح في الخطاب العام تكون حينما يستطيع هذا الخطاب ان يتصور مسألة التكفير كمجرد إعلان "اختلاف في الآراء" وحسب.
بمعنى أن خطاب التسامح بدلا من أن يرى في التكفير خطاب كراهية ويجهد في محاولات مضنيه في دفعة ومحاربته يجب عليه أن يجهد في إحالة مسألة التكفير من كونها مسألة سياسية وهوياتية إلى مجرد نوع من التعبير عن الاختلاف، محاولا في الوقت ذاته إزالة الأبعاد المتعلقة بالعنف والكراهية منه، من خلال فصل مآلاته الأخروية عن الدنيوية، عندها فقط يمكن أن تكون مسألة الدين شأنا شخصيا، ويفقد التكفير عندها كل اعتباراته السياسية والاخلاقية، ليصبح مجرد وصف بحت لموقف "لا تنطبق عليه معايير دينية ما". دون أن يترتب على ذلك انتهاكا للحقوق الأساسية للأشخاص.
 فلا يمكن للتكفير أن يكون خطاب كراهية إلا في سياق لا يحترم التعددية الفكرية والدينية، حيث يعد الكفر تهمة ذات تبعات سياسية واجتماعية خطيرة. وحيث تتساوي عقوبة البدعة أو الهرطقة مع عقوبة تزييف النقود.7

1-    فيليب دو بليسيس مورونيه، في لوكلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ترجمة، جورج سليمان، 2009، ص 788 ، وما بين قوسين هو من وضعي لمزيد من الإيضاح
2-    أنظر: توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية. بيروت: المطبعة الأدبية، ترجمة المطران بوليس عواد، 1908، ج 5 ص 519-520
ففي الفصل الذي خصصه للمبتدعة وهل ينبغي احتمالهم، يذهب الأكويني إلى عدم كفاية فصلهم عن الكنيسة فقط " بل أن ينفوا من العالم بالموت أيضا، فإن إفساد الإيمان الذي به تقوم حيوة النفس لأفظع جدا من تزييف الدراهم التي بها قوام الحياة الزمنية، فإذا كان مزيفو الدراهم أو غيرهم من المجرمين يقضي عليهم عدل الولاة العالميين بعاجل الموت، فلأن يقضي العدل على المبتدعة عند ثبوت ابتداعهم، ليس بعاجل الحِرم فقط، بل بعاجل الموت أيضا أولى"

3-    أنظر عبدالحميد كشك، كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا نجيب محفوظ. القاهرة: كتاب المختار، 1994، ص 6-7 و 92-97
4-    كما فعل الأستاذ رجاء النقاش في كتابة أولاد حاتنا بين الفن والدين.
5-    أنظر مقالة عبد الجبار نوري، نجيب محفوظ في أولاد حارتنا: قراءة برؤى معاصرة. حيث عمل على تقديم قراءة للرواية تجعل من مضامينها معززة للقيم والمبادئ الدينية اليت " نادى بها الأنبياء كالعدل والحق والسعادة الروحية" وأنه " لم ينتقص من الحق ورموزه ولا من ثوابته ومسلماته الفكرية بل استعملها كماشة نار في تقليب الحوادث المأساوية"

بالإضافة إلى " التعميد" الذي كتبة الدكتور أحمد كمال أبو المجد كمقدمة للرواية إلى جانب كلمة محمد سليم العوا في ظهر الرواية.

6-    أنظر نصوص الدعوى في. نصر حامد أبو زيد، التكفير في زمن التفكير. القاهرة: مطبعة مدبولي، 1995، ص263-287
7-    الخلاصة اللاهوتية 519-520
                                                                                                                                                                                               









 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق