الثلاثاء، 18 يونيو 2019

التكفير كمطلب للدولة المدنية




 " من حق المَجْمَع - الكنسي -  أن يفرض الحِرم، لكن المحروم يظل عضوا في المجتمع السياسي" 1
                                                                                                                 
                                                                                                                            "فيليب دو بليسيس مورونيه"

"فإذا كان مزيفو الدراهم أو غيرهم من المجرمين يقضي عليهم عدلُ الولاة العالميين بعاجل الموت، فلأنْ يقضي العدلُ على المبتدعة عند ثبوت ابتداعهم، ليس بعاجل الحِرم فقط، بل بعاجل الموت أيضا، أولى" 2
                     
                                                                                                                                           " توما الأكويني"

تقف أغلب وجهات النظر الداعية للتسامح موقفا سلبيا من خطاب التكفير على اعتبار كونه خطابا يدعو للكراهية، ومن ثم تجب محاربته، إضافة إلى مطالبتها أحيانا بالحد من نشاط الجهات التي تصدر فتاوى التكفير بحق آراء وافكار بعض الأشخاص، هذا من جهة، إلى جانب سعيها من جهة أخرى للدفاع عن هذه الآراء من خلال إيجاد أو خلق مساحات تأويلية في النص تضمن بقاء تلك الآراء ضمن دائرة الدين، جاهدة في الوقت ذاته إلى محاولة إثبات عدم منافاة أو مصادمة تلك الأفكار للدين، من ثم فالتسامح بحسب هذه الرؤية يتنافى مع التكفير، ومن يطلق عبارات التكفير بحق الآخرين هو بالضرورة شخص غير متسامح، وعليه تغدو إدانة التكفير مطلبا أساسيا لتعزيز كل من التسامح والتعددية. بيد أن النقطة التي سوف أحاول عرضها من خلال هذا المقال هي العكس من ذلك، وهو أن التكفير أو السماح بالتكفير هو الخطوة الأولى ذلك. إذ أن إدانة "التكفير" تقتضي إدانة مبطنة للحرية الدينية ورفضا مضمرا لفكرة أن يكون الدين خيارا شخصيا، وتكرس في الوقت ذاته حالة التماهي ما بين الهوية الدينية والهوية السياسية لتضيف بعدا دينيا محددا للدولة، والتي من المفترض أن تكون محايدة في علاقاتها مع مواطنيها بوصفها دولة مدنية.
من الممكن إيجاد وصف عملي لذلك في الجدل الذي كانت قد أثارته رواية الراحل نجيب محفوظ أولاد حارتنا 1962، بسبب ما بدا للبعض من كونها تضمر استهانة بالدين الإسلامي ورموزه، وذلك من خلال توظيفها للرموز الدينية في سياق واقع إجتماعي3. في حين كان جل المدافعين عن الرواية وكاتبها يستندون في دفاعهم على محاولات إثبات عدم مخالفة مضمون الرواية للمحتوى الديني، وعدم وجوب قرائتها قراءة دينية 4 وهو ما حدا بهم إلى الانخراط في عملية مرافعة جماعية لنفي تهمة " لا دينية الرواية" أو معارضتها للدين. 5 وحتى على فرض نجاح تلك المرافعات في الدفاع عن نشر رواية محفوظ، فما ذاك إلا أنها استطاعت إثبات إسلامية الرواية وخلوها من أي ملوثات "لا دينية". وهو ما يضمر إدانة أي نص يفشل في اختبار السلامة أو النقاء الديني.  

قبل كل شيء، لا بد من تقرير فكرة أن دين – أي دين - يقتضي بالضرورة الاعتقاد بمعتقدات معينة تحدد ماهيته العامة، وتُرسم من خلالها حدود الانتماء لهذا الدين عن غيره، إذ لا يصبح للدين معنى بدونها، فقبول الشخص لدين ما ليس أكثر من إقرار من الشخص نفسه البقاء ضمن دائرة المعتقدات تلك. ومن ثم يصبح الخروج عنها خروجا عن الدين ذاته. فثنائية المؤمن والكافر تحددها وضعية هذا الشخص بالنسبة "للمعتقدات المؤسسة" للدين داخل هذه الدائرة أو خارجها. فالإيمان بمعتقدات معينة يتضمن بالضرورة رفضا لما يضادها من معتقدات، فالمؤمن بمعتقد معين هو كافر بما يخالف هذا المعتقد بالضرورة، وإلا لم يكن لإيمانه معنى حقيقا ما دام يؤمن بالمعتقد ونقيضه. وبناء على ذلك فإن وصف الكفر بالنسبة لشخص ما هو وصف لوضعيته خارج دائرة هذا المعتقد. وعلى ذلك يصبح التكفير جزءا أساسيا من أي منظومه دينية، لا يمكن بدونها لأي دين أن يحتفظ بماهيته وحدوده التي تفصله عن بقية الأديان التي تعارضه في مبادئه الأساسية أو "معتقداته المؤسسة". مع ذلك لا يمكن اعتبار التكفير فعلا وصفيا وحسب، بمعني ليس التكفير مجرد إعلان عن مجرد اختلاف وجهات نظر حيال خيارات الشخص العقائدية أو الفكرية إزاء العقائد الأخرى، إلا في حالة تم اعتبار الدين مسألة ذاتيه، بين الفرد ونفسه، وهذا ما لا يقوله التاريخ ولا الدين ولا السياسة. فقد ظل الدين ولازال مشتبكا إلى حد كبير بالسياسة والمجتمع بشكل عام. إذ أنه يعمل على تأسيس بنى وروابط اجتماعيه وسياسيه، يصعب معها اعتباره مسألة أو خيارا شخصيا.
وإذا كان "التكفير" على هذا الأساس حاجة أساسية لأي منظومة دينية، فإن "حرية الكفر" في المقابل تغدو حاجة ضرورية لأي منظومة فكرية حرة. ليس هذا وحسب وبل وحاجه للدين ذاته، إذ ليس ثمة معنى لاعتناق الشخص لدين لا يملك حرية الخروج منه.
بيد أن الإشكالية الأساسية الكامنة في مسألة التكفير ناتجة من حالة الانتقال من المستوى الوصفي إلى المستوى السياسي والقانوني، والناتجة عن التماهي العميق بين المجال الديني وبين كل من المجال السياسي والقانوني، حيث تصبح فيه هوية الشخص الدينية جزءا أساسيا من هويته السياسية والوطنية، الأمر الذي يترتب على أدني تغيرٍ في الموقف الديني للشخص تغيرا في تحديد علاقته بالدولة ذاتها. الأمر الذي يجعل من الخيارات المتعلقة بمواقف تفسر أحيانا على أنها منافيه للدين، ذات تبعات اجتماعية وسياسية باهظة أحيانا. وتعد حالة المفكر الراحل نصر حامد أبو وزيد أحد أهم هذه الأمثلة التي توضح التبعات الاجتماعية على بعض المواقف الدينية، وذلك في الحكم الذي قررته محكمة النقض الصادر في 14 يونيو 1995 والقاضي بالتفريق بين الراحل نصر حامد أبو زيد وبين زوجته ابتهال يونس، على إثر بعض الآراء التي وردت في كتبه والتي تم اعتبارها غير متساوقة مع الدين بل ومناقضة له، وهو ما اعتبر ردة دينيه حكم على أساسها بالتفريق بينه وبين زوجته على أساس استحالة زواج المسلمة من غير المسلم.6
 في ظل مثل هذا الوضع والذي تنعكس فيه مواقف وآراء الشخص الدينية على وضعيته الاجتماعية، يبدو من المبرر أحيانا الدخول في "صراع تأويلي" لتبرير هذا الموقف المدان وإثبات " إسلاميته" ربما، ورفض اتهامات التكفير التي تطاله، وذلك تفاديا للتبعات التي من الممكن أن تنسحب عليه فيما لو ثبتت عدم " اتساقيته"، مع ذلك يبقى التمسك "برفض التكفير" باعتباره الحل الأمثل لهكذا إشكالية هو ما من شأنه ضمان استمراريتها كإشكاليه، وذلك من خلال تكريسه للتبعات القانونية المتعلقة به، معززا في الوقت ذاته من فكرة أن الدين ليس خيارا شخصيا بل حتمية اجتماعية، فكل ما يفعله هذا "الخطاب" في الواقع ليس سوى محاولات تبرير عدم تعارض بعض الآراء "محل الخلاف" مع المنظومة الدينية السائدة، وذلك من خلال البحث في المدونات الدينية عما يبرر اتساقها مع الدين بشكل أو المفهوم السائد له بشكل أخص. دون أن يعمد إلى إلى جعل مسألة الدين خيارا شخصيا، وذلك من خلال العمل على نقد وتفكيك المنظومة القانونية والتشريعية التي تكرس ذلك التماهي ما بين الدين الهوية السياسية.
وإذا كان التسامح لا معنى له بدون وجود اختلاف. وكان الاختلاف الديني المعبر عنه بالكفر هو اختلاف جذري وعميق بحسب التصور الديني، فإن ذروة التسامح في الخطاب العام تكون حينما يستطيع هذا الخطاب ان يتصور مسألة التكفير كمجرد إعلان "اختلاف في الآراء" وحسب.
بمعنى أن خطاب التسامح بدلا من أن يرى في التكفير خطاب كراهية ويجهد في محاولات مضنيه في دفعة ومحاربته يجب عليه أن يجهد في إحالة مسألة التكفير من كونها مسألة سياسية وهوياتية إلى مجرد نوع من التعبير عن الاختلاف، محاولا في الوقت ذاته إزالة الأبعاد المتعلقة بالعنف والكراهية منه، من خلال فصل مآلاته الأخروية عن الدنيوية، عندها فقط يمكن أن تكون مسألة الدين شأنا شخصيا، ويفقد التكفير عندها كل اعتباراته السياسية والاخلاقية، ليصبح مجرد وصف بحت لموقف "لا تنطبق عليه معايير دينية ما". دون أن يترتب على ذلك انتهاكا للحقوق الأساسية للأشخاص.
 فلا يمكن للتكفير أن يكون خطاب كراهية إلا في سياق لا يحترم التعددية الفكرية والدينية، حيث يعد الكفر تهمة ذات تبعات سياسية واجتماعية خطيرة. وحيث تتساوي عقوبة البدعة أو الهرطقة مع عقوبة تزييف النقود.7

1-    فيليب دو بليسيس مورونيه، في لوكلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ترجمة، جورج سليمان، 2009، ص 788 ، وما بين قوسين هو من وضعي لمزيد من الإيضاح
2-    أنظر: توما الأكويني، الخلاصة اللاهوتية. بيروت: المطبعة الأدبية، ترجمة المطران بوليس عواد، 1908، ج 5 ص 519-520
ففي الفصل الذي خصصه للمبتدعة وهل ينبغي احتمالهم، يذهب الأكويني إلى عدم كفاية فصلهم عن الكنيسة فقط " بل أن ينفوا من العالم بالموت أيضا، فإن إفساد الإيمان الذي به تقوم حيوة النفس لأفظع جدا من تزييف الدراهم التي بها قوام الحياة الزمنية، فإذا كان مزيفو الدراهم أو غيرهم من المجرمين يقضي عليهم عدل الولاة العالميين بعاجل الموت، فلأن يقضي العدل على المبتدعة عند ثبوت ابتداعهم، ليس بعاجل الحِرم فقط، بل بعاجل الموت أيضا أولى"

3-    أنظر عبدالحميد كشك، كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا نجيب محفوظ. القاهرة: كتاب المختار، 1994، ص 6-7 و 92-97
4-    كما فعل الأستاذ رجاء النقاش في كتابة أولاد حاتنا بين الفن والدين.
5-    أنظر مقالة عبد الجبار نوري، نجيب محفوظ في أولاد حارتنا: قراءة برؤى معاصرة. حيث عمل على تقديم قراءة للرواية تجعل من مضامينها معززة للقيم والمبادئ الدينية اليت " نادى بها الأنبياء كالعدل والحق والسعادة الروحية" وأنه " لم ينتقص من الحق ورموزه ولا من ثوابته ومسلماته الفكرية بل استعملها كماشة نار في تقليب الحوادث المأساوية"

بالإضافة إلى " التعميد" الذي كتبة الدكتور أحمد كمال أبو المجد كمقدمة للرواية إلى جانب كلمة محمد سليم العوا في ظهر الرواية.

6-    أنظر نصوص الدعوى في. نصر حامد أبو زيد، التكفير في زمن التفكير. القاهرة: مطبعة مدبولي، 1995، ص263-287
7-    الخلاصة اللاهوتية 519-520
                                                                                                                                                                                               









 



الاثنين، 13 نوفمبر 2017




أكثر من مجرّد شجرة

مع ذلك ومن وجهة نظر دينيّة وسياسة استمر النّظر إلى مفهوم التعدديّة الدينيّة ومن ثمّ التّسامح كتهديد لكل من الدّين والسّياسة على السَّواء. فكانت قرارات التّسامح الديني آنذاك جزء لا يتجزأ من سياسة “استراتيجيّة طويلة الأمد لاستعادة الوحدة الدينيّة” 1  فبالنسبة للدّين كان القبول بالتعدديّة الدينيّة يعتبر خيانة للدّين ذاته. لذا كان من المفهوم أن تكون النّزعة التّسامحيّة الّتي بدت عند كبار المصلحين في التيّار الإنسانوي قد استمرت في النّظر إلى الاختلاف بوصفه خطيئة، غير أنّها خطيئة لا بدّ منها، مقارنة بالبديل الأخر المتمثل في استمراريّة النّزاعات والحروب. ومن ثمّ سعيها لحلّ معضلة الاختلاف – المذهبي – هذا منصبا في توسعة مفهوم الدّين ليشمل جميع الفرق المختلفة من خلال إيجاد أساس ديني مشترك يسع تلك التعدديّة الدينيّة والطوائفيّة، وهي المحاولة الّتي نظر إليها البعض على أنّها مجرّد تفريغ للدّين -المسيحيّة- من مضامينه الأساسيّة، لصالح تحقيق الوحدة الدينيّة2. مع ذلك استمرّ النّظر إلى مفهوم التّسامح كمصطلح ذي دلالات سلبيّة عند كثيرين حتّى بين أولئك الّذين كانوا يروجون له. إلّا أنّه وفي أواخر القرن السّابع عشر بدا المصطلح يأخذ دلالاته الإيجابيّة بالتّحديد عند كلّ من بيير بايل ولوك وفولتير من خلال كتاباتهم حول التّسامح. وخصوصا عند بايل والّذي كتب في العام 1686 كتابه ” تعليق فلسفي حول كلمات السّيد المسيح “أرغمهم على الدُّخول”3 حيث كان من أوائل الكتابات في اللّغة الفرنسيّة -على الأقل- والّتي تناولت مفهوم التّسامح حول الاختلاف الدّيني بشكل أكثر إيجابيّة. وهي المقاربة الّتي ستجد صداها عند جون لوك في “رسالة حول التّسامح” 1689 وفولتير ” رسالة حول التّسامح بمناسبة مقتل جان كالاس” 1763.
أمّا بالنسبة للسّياسة فقد كانت تقوم في مجملها على المماهاة ما بين الوحدة الدينيّة والسياسيّة. فلم يكن الأفق السّياسي قادرا حتّى ذلك الحين أن يتصوّر ذاته من دون هويّة دينيّة واحدة. ومن ثمّ لم تكن التعدديّة الدينيّة شأنا فرديًّا أو ميتافيزيقيًّا فحسب، بل كانت تحمل في طياتها تهديدا جديًّا لوحدة الدولة. فكان الحفاظ على هذه الوحدة الدينيّة عملا يقع في صميم السّياسة.  فالخلاف الدّيني كان صيغة أخرى للخلاف السّياسي، من ثمّ كان الحلّ قائما على أساس الوحدة الدينيّة والسّياسيّة “دين واحد، ملك واحد”. وهي الصّيغة الّتي تمَّت ترجمتها في معاهدة أوغسبورغ 1555 *4 ، الأمر الّذي يفسّر كيف كان تسيس الدّين أمرا لا مفرّ منه في ظلّ تصوّر سائد من أنّ السّلام المدني غير ممكن التّحقق إلاّ في ظلّ فرض ديانة واحدة لكلّ الدولة، بيد أنّ العبء السّياسي والديني لتسيس الدينيّ كان ثقيلا بالنسبة لكثيرين، ما جعل التّطلع إلى صيغة للتّعايش والتّسامح أمرا ملحا.
كانت يوتوبيا توماس مور ( 1478- 1535 ) أحد أهمّ الأعمال الأدبيّة والفلسفيّة الّتي عكست هذا التّوق إلى التَّسامح في ظلّ مجتمع ذا تعدديّة دينيّة ومذهبيّة، وهي ككلّ يوتوبيا تعكس فشل الواقعيّ والتّاريخيّ عن أن يلبي الطُّموح الإنساني المنشود. ومن ثمّ كانت تتضمّن نقدا ضمنيّا لهذا الواقع وتعريته وفضحه من خلال إبراز نقيضه. فلم تكن الحريّة الدينيّة الّتي يتمتّع بها سكان يوتوبيا عند مور مجرّد حل لابدّ منه لحسم الخلافات والنّزاعات الّتي كانت سائدة فيما بينهم “إذ يكفل القانون لكلّ شخص حريّة اعتناق الدين الّذي يريده، ويُسمح له بدعوة الآخرين إلى دينه، بشرط أن يؤيّد الدّعوة بالمنطق بهدوء ووداعه، وألاّ يهاجم الأديان الأخرى بمرارة إذا لم تنجح حججه، وألاّ يستخدم العنف، ويمتنع عن السّب، فإذا ما عبّر عن آرائه بعنف وحماس متطرّف، عوقب بالنّفي أو بأن يصبح عبداً” 5  بل ثمّة أبعاد دينيّة لذلك التّسامح الدينيّ تتجاوز الاعتبارات السياسيّة،. فلو لم يكن “الله يريد أنواعاً كثيرة ومختلفة من العبادة” لما أوحى للشّعوب المختلفة بآراء مختلفة. 6
تجدر الإشارة هذه الطموح للتّسامح الديني لم يكن مستحيلا، إذ بدت الإمبراطوريّة العثمانيّة مثالا على تحقق يوتوبيا التّسامح هذه. إذ دائما ما تتمّ الإشارة إليها كدليل على إمكانيّة التّعايش الدينيّ في ظلّ سلطة زمنيّة واحدة.7. حيث كانت بمثابة التّحقق الواقعيّ والتاريخيّ ليوتيوبيات للفكر الغربيّ آنذاك.
II
تُطرح مسألة التّسامح على الأغلب كانعكاس ما بين تعارض إرادات ومصالح مّا، ما بين الأغلبيّة والأقليّة. إذ يتمّ استحضارها كحلّ وتسوية ما بين اختلاف المصالح تلك. وبسبب الثّقل الاجتماعيّ والدينيّ والسياسيّ للأغلبيّة فإنّ التّسامح يبدو أحيانا وكأنّه هبة من طرف الأغلبيّة للأقليّة الّتي غالبا ما يبدو التّسامح مطلبا أساسيّا بالنّسبة لها. غير أنّه في كثير من الأحيان يصبح ضرورة سياسيّة في المقام الأوَّل لتحقيق نوع من السّلام الدَّاخلي.
في ديسمبر من عام 2016 حدث أن قام بعض نوّاب مجلس الأمّة الكويتي باستنكار وضع شجرة الميلاد في أحد المجمعات التجاريّة، الأمر الّذي تمّ على أساسه إزالتها،8 نفس الموضوع حدث في مصر من خلال قيام بعض الأشخاص بتخريب شجرة عيد الميلاد في أحد المجمَّعات. وعلى الرَّغم ممّا كون هذه الأمثلة هامشية مقارنة بالأمثلة الكبرى والّتي يتمّ غالبا من خلالها مقاربة موضع التّسامح كالحروب الأهليّة والاضطهادات الّتي تتعرّض لها بعض الأقلّيات على سبيل المثال، بيد أنّها رغم هامشيتها تضعنا أمام التّسامح “في إطار الممارسة اليوميّة” فضلا عن كونها تمثّل ما يمكن اعتباره بذورا غير مرئيّة غالبا للعديد أحداث العنف الكبرى، ومن ثمّ يبدو مناسبا تناولها من أجل إثارة تساؤلات عديدة حول التّسامح والحريّة الدينيّة.
لا تكمن الإشكاليّة في الحدث ذاته بقدر ما تكمن في المبدأ الّذي تمّ على أساسه إزالة شجرة الميلاد وهو يفتح الباب أمام مناقشات أوسع بكثير من إزالة شجرة في سوق تجاريّ. ينطلق هذا المبدأ من ثلاث مسلّمات كلّها حسب رأيي تحكم أغلب المنطلقات الأساسيّة لخطاب عدم التّسامح فضلا عن كونها تتناقض مع مفاهيم أساسيّة لفكرة المجتمع المدنيّ:
تنطلق الفرضيّة الأولى من افتراض أنّ الأغلبيّة تمتلك الحقّ في فرض ما تراه مناسبا في المجال العام. ما يعني مطالبة الأغلبيّة باحتكار المجال العام، وتحديد ما هو مناسب وغير مناسب على أساس كونها تمثّل رغبات الأكثريّة حول موضوعات معيّنة. وبالتّالي فإنّ هذه “الأكثرية” يحقّ لها  – حسب هذا المفهوم – أن تستخدم القوّة في فرض وتحديد المجال العام، لا يقتصر مصطلح (القوّة) هنا بالضّرورة الإحالة إلى  المعنى المادي للقوّة – الاعتداء الجسدي، النّفي، الحبس – بل يحيل أحيانا إلى استخدام أشكال أخرى كممارسة الضّغط السّياسي من خلال الهيئات التشريعيّة من أجل القيام فيما تعجز الأغلبيّة عن القيام به في ظلّ مفهوم الدولة كجهاز يحتكر العنف، من أجل الضّغط عليها لتغيير ما تراه الأغلبيّة موضوعا غير لائق. من المهمّ ملاحظة أنّ هذا الإلزام يأتي مناقضا لمبدأ النّقاش العقلانيّ الحرّ. فالأغلبيّة حينما تعمد إلى فرض رأيها بالقوّة فإنّها ترى في التّداول العقلانيّ في حلّ الخلافات مجرّد “ترف” يغني عنه الثّقل الأيديولوجي والديني أو السّياسي لها. فضلا عن أنّ اللّجوء للحوار العقلانيّ يستلزم التّخلي -نظريا على الأقلّ- عن استخدام تلك السُّلط لصالح الاعتراف بالنديّة في المجال العام. بالتّالي يصبح فرض الرّأي من خلال الإلزام خياراً أقلّ كلفة بالنسبة للأغلبيّة من وضع “موضوعات الخلاف” رهنا للنّقاش العام. في حين يبدو التّخلي عن هذا المبدأ واللّجوء إلى خيار النّقاش العقلانيّ الحرّ يشبه التّخلي “مكسب مضمون”. والتّخلي عن فرصة سيادة ” مجانيّة”.
يظهر أنّ مفهوم امتلاك القوّة، هو ما يستبطن المبدأ الّذي تنطلق منه أي أكثريّة في فرض رأيها. إلاّ أنّ نفس هذا المبدأ يتيح لأيّ جهة تمتلك القوّة أن تفرض رأيها بنفس الطَّريقة. كما لاحظ ذلك “مل”. حتّى لو كانت هذه الجهة في موقع “أقليّة”.
يدرك  أصحاب هذا الرّأي أنّ وضع ” الخلاف ” رهنا للنّقاش العام ينطوي في أغلب الأحيان على جعل الحسم في هذا الموضوعات -إن كان ثمّة حسم كامل- يستغرق زمنا طويلا. ومن ثمّ الاعتراف بإمكانيّة وجود أكثر من رأي حول موضوع واحد. والامتناع عن فرض الرّأي بالقوّة.
الفرضيّة الثّانية الّتي تستبطن فكرة المنع تتعلّق بالرّبط بين كلّ من فكرة السّماح والرّضى، واعتبار أنّ الأوَّل يتضمّن الثّاني. حيث أنّ السّماح بفعل معيّن يعني تبني وقبول الفعل الّذي تمّ التّسامح معه. كانت هذه المسلمة في الواقع قد حكمت جلّ المواقف الّتي بدت رافضة للتّسامح والتّعايش الدينيّ. فقد كان الموقف اللاّتسامحي ينطلق في إطار نقده لنزعة التّسامح هذه من فكرة مفادها أنّ ثمّة تناقضا ما بين رفض موقف فكريّ أو عمليّ معيّن وما بين العمل على السّماح له بالوجود وربّما الانتشار. ومن ثمّ يبدو التّسامح وكأنّه خيانة للدّين والمعتقد.
غير أنّ التّسامح إزاء بعض المواقف الّتي يتمّ اعتبارها خاطئة لا يعني بالضّرورة قبولها واعتباره صائبة بل كلّ ما في الأمر هو الإقرار بحقّها في الوجود بشرط ألاّ يكون في وجودها تهديدا فعليّا على الآخرين ومن ثمّ كان لا بدّ في الواقع من فكّ العلاقة ما بين كلّ من السّماح والرّضى وذلك من خلال تبرير مقاربة أخرى وهي مقاربة أنّ التّسامح لا يعني بالضّرورة الرّضى بل يتضمّن “رفضا” لكنّه رفض من نوع معيّن.
فإذا كان صحيحا القول أنّ مفهوم التّسامح لا يمكن التّفكير فيه إلاّ في سياق “خلاف”، فإنّ السّعي لإزالة ” الخلاف” يقتضي موقفا سلبيّا إزاء ” التّسامح”، خاصّة إذا ما تمّ بالقوّة.  فلا تسامح من غير وجود خلاف.  إذ يبدو كشرط مسبق لإمكانيّة أيّ تفكير في التّسامح. إلى حدّ يمكن الزّعم معه بأنّ تاريخ التّسامح نفسه كان تاريخ “خلاف” بامتياز. حيث بدا التّسامح كأحد الحلول الأكثر معقوليّة إزاء الحيلولة دون أن يتحوّل الخلاف -وكان قد تحوّل بالفعل- إلى صراع سياسيّ ودينيّ دمويّ وسم شطرا كبيرا من التّاريخ الأوروبيّ على وجه الخصوص. بناء على ذلك يصحّ القول أيضا أنّ فكرة ” الخلاف” هي الأخرى تتضمّن وجود “رفض”. إذ من غير الممكن التّفكير في وجود خلاف حول موضوع مّا، دون أن يتضمّن ذلك وجود “رفض”، وإلّا لم يتأتى وجود “خلاف” أصلا.
إلاّ أنّ فكرة الرّفض الّتي يتضمّنها خطاب التّسامح تختلف عنها في خطاب اللاّتسامح. بحيث لا تعبّر عن نفسها إلاّ في سياق النّقد والنّقاش الفكريّ العام. الأمر الّذي يجعل من القيود الّتي تحكم توجهات وآراء الأفراد ليست سوى تلك القيود الّتي يفرضها الأفراد على أنفسهم. الأمر الّذي يستبعد كلّ إمكانية لإلزام الآخرين بالقوّة. في حين تبدو المقاربة الّتي ينتهجها الموقف المناهض للتّسامح تنطوي على الرّبط بين فكرة الخلاف وبين فكرة الرّفض باستعمال القوّة -بالمعنى العام- لإزالة أو منع ما يعتبر خاطئا. حيث يكون الموقف الوحيد إزاء الأفعال الّتي يتمّ اعتبارها خاطئة هو العمل على استئصالها بالقوّة.
الفرضيّة الثّالثة الّتي تستبطن فكرة المنع هي فرضيّة إبيستيمولوجيّة*9. تنطلق هذه المقاربة من فكرة مفادها الاعتقاد بأنّ امتلاك الحقيقة في موضوع معيّن يفضي إلى وجوب فرضها على الآخرين. فهي يقوم على الاستنتاج التّالي صحة فكرة معيّنة تستلزم فرضها.
فإذا كان “س” يعتقد بأنّ “أ” فكرة صحيحة فذلك يعني أنّ “س” يجب أن يجبر “ب” على قبولها. بالرّغم من عدم وجود رابطة منطقيّة ما بين امتلاك الحقيقة والتيقن التّام منها، وما بين إجبار أو إلزام الآخرين على اعتناقها. بحيث يبدو أنّنا أمام قفزة منطقيّة واضحة من فكرة امتلاك اليقين وبين فكرة إلزام الآخرين بها، بيد أنّ الشّواهد التّاريخيّة تأتي لتؤكّد على النّقيض من ذلك، من حيث أنّ أولئك الّذين يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة علماء كانوا أم عقائديين إنّما يفتحون الباب على مصراعيه أمام مآسي بشريّة، إلّا أنّنا نجد أنفسنا ملزمين بتفسير هذه القفزة المنطقيّة، ولماذا كان اليقين مرادفا في كثير من الأحيان للاضطهاد، وابتعادا عن التّسامح، وما الّذي يجعل الانتقال من اليقين إلى التّعصب ممكنا بهذه السهولة. إلى حدّ اعتبار ادعاء اليقين خطرا بحدّ ذاتهً؟9
ربّما كان في عدم قدرة الموقف اليقيني بموثوقيته المطلقة على خلق فضاء جديّ من الحوار والنّقاش. هو ما يفسّر النّظرة السلبيّة للاختلاف، وهو ما تشير إليه أيضا الكتابات حول تاريخ الاختلاف حيث ظلّ ينظر إليه على الدّوام وحتّى وقت طويل بكونه مشكلة سياسيّة ودينيّة، إذ يبدو الآخر على الدّوام مصدر خطر بالنّسبة للموقف اليقينيّ -أيًّا كانت تمثلاته، دينيّة كانت أم سياسيّة أم ثقافيّة-. ومن ثمّ فإنّ وجود الآخر المختلف، يمثّل بحدّ ذاته مصدرا مستمرّا لطرح الأسئلة، الأمر الّذي يبدو كتهديد لأيّ موقف يقينيّ. فالآخر يحيل دائما على وجود”اختلاف”، بحيث يمكن القول إنّ سؤال “الاختلاف” هو ما يثيره وجود “آخر”.
فمكمن الخطورة في “اليقين” هو هذا الفضاء المغلق الّذي يجعل منه محصنا ضدّ أي فكرة أخرى مخالفة، هو ضمير متوحّد، لا يمكنه أو التّواصل مع الآخر. فهو قادر على سبيل المثال على تجاوز كلّ الاعتراضات الأخلاقيّة. ودون أن يقف للنّظر إلى الوراء، إنّه يشبه ما أطلق عليه ماركيوز “الضّمير السّعيد” 10 وإذا كان مصدر السّعادة لهذا الضّمير حسب ماركيوز يكمن في أنّ كلّ ما هو واقعي عقلاني بالضّرورة، وإذا كان هذا الواقع الّذي يتناوله ماركيوز بالنّقد هو تلك النّزعة العقلانيّة والبيروقراطيّة المفرطة. فإنّ واقع الضّمير السّعيد في خطابات اللاّتسامح هو الأيديولوجيا السّائدة. إنّ اليقين المتعالي لها وحصانتها ضدّ النّقد هي ما تجعل منها أمرا مرعبا، خصوصا عندما تتّخذ طابعا عنيفا. هذا الضّمير السّعيد هو من يكفل ليلة هادئة لشخص بعد قضاء يوم كامل قتل أو تعذيب العديد من الأبرياء، إنّه يشبه ضمير تلك العجوز الّتي قدّمت حزمة من الحطب للنيران الّتي كانت تلتهم في حينها المصلح واللاهوتي التشيكي جيروم أوف براغ (1379-1416) 11 بسبب أنّ سلطة الضّمير الأخلاقيّ عند هذا الشّخص قد أصبحت مرتهنة لمقولات وأفكار يقينيّة غير قابلة للنّقض، بل وليس ثمّة مجال لنقدها.
فالبساطة والوضوح الّتي تسم فكــرة ” اليقين” تجعل من غير الممكن طرح مسألة احتماليّة أن نكون على خطأ، ومن ثمّ فإنّها تقطع الطّريق على أيّ محاولة تواصليّة حقيقيّة مع الآخر إذ أنّ هذه التواصليّة تفقد قيمتها بمجرّد عدم تبنّي فرضيّة احتماليّة الخطأ هذه، إذ أنّ التّساؤل حول مدى مصداقيّة رأي معيّن يعدّ ضمانة لاتّخاذ احتياطات كافية، ربّما، قبل وضعه موضوع التّنفيذ. ثمّة أمر آخر يترتب على خاصيّة “الوضوح”، فهذه الخاصيّة الكامن في كلّ نزعة يقينيّة هي ما يعطي لفكرة الإلزام هذه ثقلها، بحيث تفرض على معتنقها ما يشبه أن يكون واجبا أخلاقيّا يتمثّل في “إلزام” الشّخص فرض ما يعتبره يقينيّا على الآخرين، بحيث يفضي تجاهله إلى ما يشبه أن يكون “أزمة ضمير” بالنّسبة للشَّخص. 12
وعليه كانت القدرة على الشّك وطرح الأسئلة ترياقا  للخطر الّذي يمثّله اليقين المعرفي، وهذا ما حدا باللاّهوتي الأنسني الفرنسي سباستيان كاستيليون 1515-1563 أن يقدّم مبرّرات مهمّة للشّك ” فالآفات النّاجمة عن عدم الشّك لا تقلّ سوءا عن تلك النّاجمة عن عدم الإيمان حيث يجب الإيمان… ولو عرف الإسرائيليون الشّك لما قتلوا هذا العدد الكبير من الأنبياء والرّجال القديسين”13،  ففضيلة الشّك هذه هي ما حاول خطاب التّسامح ولا زال وعلى الأخصّ في القرن الثّامن عشر والتّاسع عشر إعادة إنتاج نفسه على أسس إبيستيمولوجيّة، من خلال ملاحظة أنّ قصور المعرفة البشريّة وعدم قدرتها على الوصول إلى الكلمة النهائيّة في شتّى موضوعات المعرفة يقتضي التّسامح مع الاختلافات النّاتجة عن هذا القصور البشريّ. فضلا عن أنّ التّعدديَّة في الآراء الّتي يتيحها التّسامح توفّر الفرصة لتطوير المعرفة وتفادي ما يلحق بها من قصور. بيد أنّه إذا كان الشّك فضيلة “أخلاقيّة” عند كاستليون ودعاة التّسامح في القرن السّادس والسّابع عشر، فإنّه سيصبح منذ القرن الثّامن عشر فضيلة “علميّة”، خصوصا بعد الفتوحات العلميّة الكبيرة الّتي رافقت انهيار النّماذج العلميّة والفلسفيّة القديمة والّتي كانت بمثابة السّلطة المرجعيّة الوحيدة، ذات القول الفصل في أيّ موضوع من موضوعات المعرفة. إذ جعلت هذه الهزّة الإبستيمولوجيّة الذّهن البشري أكثر حذرا في الادعاء باليقين المطلق. لتصل زعزعة اليقينيات هذه ذروتها في القرن العشرين حسب بروفنسكي 14.
كان التّأسيس للتّسامح الأخلاقيّ وفق هذا المنطلق يتمّ من خلال ملاحظة الفرق بين المعرفة العلميّة والمعرفة الأخلاقيّة والإنسانيّة على وجه العموم. فما يميّز المعرفة العلميّة هو كونها مفتوحة للجميع، فإذا ما قام أحد العلماء باكتشاف علميّ معيّن فإنّه يقوم بكلّ بساطة بتدوين تلك التجربة بحيث يمكن لأيّ شخص آخر يملك الوقت الإمكانيات الكافية أن يعيد التّجربة ليصل إمّا إلى نفس النّتيجة أو يثبت خطؤها. في حين تبدو في الفرضيات الأخلاقيّة والدينيّة عموما غير قابلة لنفس التّحقق العلميّ بحيث تبدو غير مفتوحة للجميع لإمكانية اختبارها. الأمر الّذي يجعل ادعاء اليقين الأخلاقيّ فيها ليس أمرا خاطئا وحسب بل ذو تبعات كارثيّة فيما يخصّ العلاقات الإنسانيّة عموما. وهو ما يجعل من التّسامح مع الاختلاف ضرورة أساسيّة في مثل هذه الحالة. 15
************
1- Divided by Faith: religious and the practice of toleration in early modern europ”, pp 143 Kaplan, Benjamin
كذلك يبدو مهما ملاحظة أنّ المراسيم الّتي كانت تدفع نحو التّسامح الدينيّ، بما فيها مرسوم نانت 1598 كان يطلق عليه رسميًّا مراسيم ” تهدئة” وليست مراسيم للتّسامح.
2- عبّرت عن هذا النّزعة الّتي تحاول تأسيس الدّين على مبادئ أخلاقيّة عامة واعتبار وتهميش المضمون الحرفي للكتاب المقدّس. عن نفسها من خلال كتابات عديدة أبرزها لها عند غاسبار شفنكفيلد- دافيد جورس . أنظر لوكلير، تاريخ التّسامح في عصر الإصلاح، المنظمة العربيّة للترجمة، ترجمة جورج سليمان، 2009، ص 149-219.
3- جدير بالذّكر أنّ هذه الآية الّتي وردت في لوقا 14:23 قد شكّلت ركيزة عند البعض في تبرير الاضطهاد الدّيني بدعوى حماية الدّين من الهراطقة من جهة ومن جهة بدعوى تخليص الهراطقة من بدعهم بدعوى المحبّة، كان القديس أوغسطينوس في سياق جداله مع الدوناطيين قد حاول أن يجد في هذه الآية مبرّرات لاستخدام السّلطة الزمنيّة لقمعهم واستئصال بدعتهم من حيث أنّ ثمّة اضطهادان تعسفي وآخر عادل، فأمّا الاضطهاد التّعسفي فذاك الّذي يلحقه الهراطقة بكنيسة المسيح، وأمّا الاضطهاد العادل فهو ذاك الّذي تلحقه الكنيسة بالهراطقة، فالاضطهاد الأوّل هو اضطهاد تعسفي وأمّا الآخر فبداعي المحبّة. أنظر تاريخ التّسامح ص86 -94.
4- كانت معاهدة أوغسبورغ قد وضعت الحد للصراع الطائفي الكاثوليكي البروتستانتي في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، حيث إقرار مبدأ الوحدة السياسية الدينية، إذ سمح لكل أمير من أمرا المقاطعات الألمانية أخيار إما اللوثرية أو الكاثوليكية ضمن المقاطعات التي يحكمونها في حين يكون رعايا الأمير في المقاطعة مجبرين على اعتناق مذهب الأمير.
5- توماس مور، يوتوبيا، ترجمة وتقديم أنجيل بطرس سمعان، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1987.
6- نفس المصدر.
7- Stravrianos, “The Ottoman Empire” pp24  S  وفولتير، قصص وحكايات، ترجمة سليمان حرفوش، دمشق، دار المدى، 2006.
8- جريدة القبس 20 ديسمبر 2016.
9- Simon The dangerous of certainty by in new York times 2.Feb.2014 Critchley
10- هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الآداب، 1988 ص116-120.
11- في آواخر شهر مايو من العام 1416 أدان مجمع كونستانس المصلح واللاّهوتــي التشيكي جيــروم أوف براغ بتهمة الهرطقة، وتمّ الحكم عليه بالإعدام حرقــا، وبينما كانت النّيران تشتعل تقدّمت امرأة عجوز بيدهــــا حزمة مـــن الحطب لترمي بها ضمن الحطب المشتعــــل حــول جيروم، فقال : sancta simplicitas “يا للسّذاجة المقدّسة”.
12- أنظر المبررات الّتي ساقها (ج. مل) للدّفاع عن التّسامح ج.مل. عن التّسامح ترجمة عبد الله غيث، ط الأهلية، ص 65 – 80 على الرّغم من كون هذا الإلزام لا ينبع دوما من فكرة ( اليقين ) فحسب، إذ ثمّة دوافع أخرى تجد تبريراتها في الإلزام الدّيني نفسه. بحيث تصبح فكرة إلزام الآخرين لفكرة مّا، هو بسبب أنّ الدّين أو بالأحرى أنّ -تفسيرا معيّنا للدّين- يوجب على الفرد أو السّلطة -بأشكالها الاجتماعيّة أو السّياسيّة-  أن تفرض هذا الرّأي على الآخرين. أو كما يعبّر “مل” في نقده للفكرة القائلة من أن الله لا يكره فقط أفعال الكفّار، ولكنّه كذلك لن يعفينا من الذّنب إن لم نتدخّل ضدّهم” ج. مل. في الحريّة، ترجمة عبدالله غيث، الأردن، الأهلية للنشر والتوزيع، ص188، مع ذلك يبدو أنّ هذا الإلزام يتسند هو الآخر على يقين مطلق.
13- ج لوكلير، تاريخ التّسامح في عصر الإصلاح، المنظمة العربيّة للترجمة، ترجمة جورج سليمان، 2009، ص 450.
14- (إنّ أحد أهداف العلوم الطبيعيّة إعطاء صورة دقيقة عن العالم الماديّ وإحدى منجزات الفيزياء في القرن العشرين هي البرهان على أنّ هذا الهدف لا يمكن تحقيقه…… ذلك هو الأسلوب الوحيد للمعرفة إذ ليس ثمّة معرفة مطلقة. وأولئك الّذين يدعون خلاف ذلك -سواء أكانوا علماء أم عقائديين -يفتحون الباب على المأساة، فكلّ المعلومات منقوصة. غير كاملة. ويجب التّعامل معها وتناولها بتواضع. تلك هي الحال البشريّة وذلك هو ما تقوله فيزياء الكمّ وأعني ذلك حرفيّا).  ج. بروفنسكي، ارتقاء الإنسان، عالم المعرفة، ط 1981، ص 239 -240.
15- “The dangerous o Moral certainty”, the philosophy now –Issue 15 Lloyd, Peter

* نشر في صحيفة الآوان التونسية و مجلة ثقافات
http://thaqafat.com/2017/07/82689
---
https://www.alawan.org/2017/07/17/%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D9%85%D8%AC%D8%B1%D9%91%D8%AF-%D8%B4%D8%AC%D8%B1%D8%A9/

الثلاثاء، 25 أبريل 2017

في الرقابة والحرية












"صحيحٌ أن الثقافة بدون حرية لم تصنع عقلا كبيراً وليبراليا،ً إلا أن بمقدورها أن تصنع داعية ذكيا لقضية ما" جون ستيوارت مل



اعتدنا في كل مره يقام فيها معرض الكتاب وجود قائمة طويلة من الكتب الممنوعة والتي يتم التحفظ عليه لأسباب شتى. فأصبحت قوائم الكتب الممنوعة شيئا اعتياديا في كل سنه يقام فيها المعرض. بل يمكن القول أننا لا نبالغ أن قلنا أن الحديث عن الكتب الممنوعة قد أصبح جزءا لا يتجزأ من هذه الفعالية الثقافية السنوية. الكثير من الكتاب والمثقفين بل وحتى القراء العاديون يبدون تذمرهم حيال المنع، إلا أن أغلب الاعتراضات حول منع الكتب في الواقع تستبطن فكره المنع ذاته من خلال عدم قبولها بتبعات إلغاء فكره الرقيب.
ربما بدا من المستغرب استمرار فكرة الرقابة الفكرية بعد كل هذا الانفتاح الإلكتروني الهائل والذي تبدو معه فكره الرقابة بحد ذاتها عديمة الجدوى. غير أن ما يدعو إلى الاستغراب حقا هو ألا تثير مسألة الرقابة الفكرية هذه نقاشا عاما حول الحريات عموما وحرية الفكر بوجه خاص. سأحاول من خلال هذا المقال أن أبين فكرة الرقابة الفكرية وتبعاتها الثقافية في محاوله ولو بسيطة لإثارة النقاش عن موضوع الحرية والآليات المتعلقة بتقييدها.
1
في كتابه الجمهورية الذي يرسم فيه أفلاطون المعالم التفصيلية لما يمكن أن يطلق عليه المدينة المثالية والتي رأى فيها أفلاطون تحقيقا لتصوراته عن الكمال. في هذا المخطط التفصيلي للمدينة نجده يضع شروطا دقيقه ويفرض رقابة صارمه على النشاط الفكري والأدبي في المدينة، فالشعراء والفنانون يخضعون لسياسة الدولة الصارمة التي تعمد إلى خلق مواطنين أكفاء يقومون بواجباتهم بدقة حسب ما تحدده طبيعة الطبقة التي ينتمون إليها، الأمر الذي يهدد مدينه افلاطون أن تبقى مدينه بلا شعراء حقيقيين. هذه الخصومة التي يواجه بها أفلاطون الشعراء والفنانين بشكل أكثر عموميه تكمن في كون الشعر يبدو عصيا على الانضباط السياسي في نظر افلاطون وهو ما يمثل جوهر المدينة الفاضلة. إن تسيس الشعر أو الثقافة بشكل عام هو ما كان يريده أفلاطون، فالشعر والفنون لا وجود لها في الجمهورية إلا إذا كانت في إطار يخدم ويكرس الواقع السياسي لهذه الجمهورية، وعلى هذا الأساس يدخل الشعر كجزء من العملية التربوية اللازمة للأطفال. الأمر الذي يضع قيودا على كل نشاط فكري وثقافي لا يتناسب مع الأهداف العامة للدولة، الأمر الذي تبدو فيه الدولة مجرد آلة سياسية هائلة لإنتاج كائنات بشرية متشابهة إلى حد كبير. لا يجب أن تؤخذ العلاقة بين الشعر أو الفنون من جهة والسياسة عند أفلاطون من جهة أخرى بهذه البساطة، ففي بحثه عن أركيولوجيا الاستبداد يذهب كارل بوبر إلى ترجمه هذه العلاقة إلى علاقة ما بين الفردانية التي يمثلها الشعر والفن بشكل عام وما بين الاستبداد الذي يكمن في جعل الدولة آلة هائلة الحجم لإنتاج كائنات مطواعه. إذ تبدو كل تجليات الفردانية التي تستبطن النشاط الثقافي الحر خطرا وجوديا للشمولية.
تعد هذه الآليات التي وضعها " المعلم الإلهي " أحد أهم الأمثلة في تاريخ الفلسفة -على الأقل -على فكره الرقابة الفكرية. لا أحاول في هذا المقال تتبع الجذور التاريخية للرقابة الفكرية بإرجاعها إلى أفلاطون ولا إلى أي شخص آخر بقدر ما أريد التركيز على الفكرة الكامنة خلف مفهوم الرقابة ذاته وما يكمن خلفة من تبعات فكرية وثقافية. يبدو أن ثمة ارتباط بين فكره الرقابة أو الوصاية وبين افتراض حاله قصور كامنه في الشخص موضوع الرقابة. فهي تفترض وجود سلطة ما تملك البت فيما يصح وما لا يصح نيابة على الآخرين. نجد حسب هذا التحديد لفكرة الرقابة أنها تميل إلى الانتماء إلى مصطلح " أبوي" أو أسري" وإذا كان ثمة دلائل إيجابية لهذا المصطلح في سياق أسري واجتماعي فإنها في سياق ثقافي تعني العكس تماما. فالفعل الفكري أو الثقافي هو فعل حر بطبيعة الحال فبمجرد أن يفقد طبيعته النقدية الحرة إزاء الموضوعات التي يتناولها أو تلك التي يفكر فيها فإنه يفقد كل شيء يصله بالفكر أو الثقافة. فإذا كان القصور حاله مؤقته وعابرة في السياق الأسري بسبب زوالها بوصول القاصر إلى مرحله الرشد وهذا ما تضمنه الطبيعة على كل حال. فإن افتراض القصور في السياق الثقافي هو افتراض من غير ضمانات تضمن انتقال "الشخص القاصر ثقافيا" إلى حاله الرشد والاستقلالية. الأمر الذي يجعلها في غياب هذه الضمانات مرشحه إلى أن تتحول إلى حاله قصور أبدي. فالقصور الطبيعي حاله عابره تفرضها الطبيعة وتنتهي بعد فتره. في حين أن القاصر الثقافي هي حاله تقع المسؤولية على عاتق الفرد نفسه في إزالتها.



2
"لو كان الناس جميعا على رأي واحد باستثناء رجل واحد له رأي مخالف لرأيهم، فإن الناس جميعا لن يكونوا أقوى حقا في إسكات هذا الشخص الواحد من حق في إسكاتهم إن كان ذلك بمقدوره " جون ستيوارت مل
يبدو أن مسألة الحرية الفكرية مسالة إشكاليه في الأساس، بمعنى أن إثارة موضوع الحرية بشكل عام يتضمن وجود اختلاف وتعارض بين أنماط فكرية متعددة. وينطوي كذلك على التساؤل عن أجدى الطرق لحسم تصادم الحريات هذا. غير أن أحد أهم الحلول الشائعة هو أنه ما دام ثمة تعارض بين أنماط فكرية معينه داخل مجتمع ما. فيبدو أن الانحياز لرأي الأغلبية أقل كلفة من ناحية الوقت ومن ناحية الاستقرار السياسي والاجتماعي. لهذه الاعتبارات يبدو هذا الحل في الواقع عمليا جدا من هذه الناحية، على الرغم من أن الحلول العملية لا تعني الصواب في كل الأحوال. لكن لا يبعد أن يكون هذا الحل فاشلا على المدى البعيد. فلا يستبعد أن يصبح هذا الرأي الذي يحظى بأغلبية في مكان ما أن يكون هو ذاته رأي الأقلية في مكان آخر، أو ربما حدث تغيرا في الثقل السياسي والاجتماعي لتصبح الأقلية تملك ذات الثقل السياسي الذي يمكنها من فرض رأيها مكان رأي الأغلبية السابقة. * 1 من الواضح أن ذلك يجعل من خطاب الحرية خطابا مرهونا بثنائية الأغلبية والأقلية. ما يعيق المجتمع من الإفلات منها ما لم يصبح مرنا وقادرا على الدوام من أن يوسع من فضاءه الاجتماعي لا ليتضمن فقط أفكار الأغلبية والأقلية بل ليحوي أوسع قدر من التنوعات الفكرية والثقافية.
ربما بدا أن الخطاب الداعي إلى المطالبة برفع الحظر وإتاحة الحرية الفكرية هو خطاب يعكس رغبة في الحرية ، ربما كان ذلك صحيحا إلا أن الاختبار الحقيقي لخطاب الحرية الفكرية لا بد أن يتضمن الاعتراض على منطق الرقابة نفسه. وذلك بالمطالبة برفض الوصاية والمطالبة بنفس مستوى الحريات للجميع. وجعل خطاب الحرية الفكرية خطابا يتجاوز ثنائية الأغلبية والأقلية *2
فالموقف الذي يطالب بحرية الفكر أو التسامح مع أفكار معينه طالما كانت لا تتعارض مع أفكاره ويرفض التسامح حينما يتعلق الأمور بموضوعات لا تتفق معه.  فإنه لا يقع في تناقض منطقي فحسب بل وفي خطأ أخلاقي فادح ينطوي على انتهازيه واضحة. فعندما يزعم شخص ما أحقيته في منع فكره ما طالما كانت هذه الفكرة تتعارض مع توجهاته الفكرية. فإنه يفقد مشروعيه التعاطف معه عندما يتم مصادرة حريته الفكرية من أي كان، وبالتالي يفقد حقه في الشكوى من القمع الفكري. فعندما يفرض التيار السائد في المجتمع رقابته على الآراء الأخرى – ذات الثقل السياسي أو الاجتماعي والأيديولوجي – فإن هذا التيار السائد يضع نفسه – نظريا على الأقل – على المدى البعيد في ذات الموقف في حال تغير الثقل السياسي والاجتماعي والأيديولوجي.
إذا كان ثمة مساوئ في التسامح الفكري فإنها تكمن في إجبارنا على الاستماع إلى آراء ربما بدت مصادمه ومخالفه لآرائنا مهما بدت قيمتها الفكرية. إلا إن فكرا لا يستطيع الاستماع إلى نقائضه ومخالفيه لا يستحق أن يطلق عليه مسمى فكر إلا من ناحية تركيبته اللغوية المحضة.
 --------
هوامش
1-      * في القرن السادس عشر وتحديدا في العام 1579 كتب الجدلي والفقيه الكاثوليكي جورج أيدر Georg Eder  أحد أنصار الاصلاح المضاد، حول التناقض الذي يسم موقف البروتستانت الذين لا يتوقفون عن المطالبة بحرية المعتقد والضمير لرعاياهم في الأراضي الكاثوليكية، في الوقت الذي يرفضونها للكاثوليك في المقاطعات التي يحكمونها " إن البروتستانت لا يتساهلون البتة مع الكاثوليك في الأراضي التي يسودون عليها، بل يحتقرونهم علانية ويطردونهم من ممتلكاتهم ومنازلهم ويجبرونهم على سلوك طريق المنفى مع زوجاتهم وأولادهم... إلا أنه ما إن يقدم أحد أعضاء مجلس الإمبراطورية على التصرف بالطريقة عينها مع رعاياه العصاة أو المتمردين حتى يسارعوا إلى توبيخه ويسخطوا عليه ويتهموه بخرق معاهدة الديانة"
كذلك يتناول دانيال جاكوبي إلى هذه انتهازية التسامح حينما يشير إلى الوضعية المسالمة للكالفينية طالما كانوا في موقف لا خولهم فرض آرائهم بالقوة. لكن حينما يصبحون في وضع سياسي أقوى فإنهم لا يتوانون عن فرض آرائهم لو بالقوة. أنظر. (جوزيف لوكلير تاريخ التسامح في عصر الإصلاح ص 366-368)



2-      *أحد أهم المحاولات في فك تناول موضوع الحرية خارج نطاق ثنائية الأغلبية والأقلية هي محاولة جون ستيوارت مل. على الخصوص في كتابه (عن الحرية) حيث أصبح موضوع الحرية الفردية موضوعا أساسيا. من خلال محاولة تقليص تدخل المجتمع في الحريات الفردية إلا في حدود الضرر المادي. هذا التقدم الحاصل في مفهوم التسامح هو في الواقع نتيجة لتزايد النزعة الفردية في المجتمعات الغربية على وجه الخصوص. 
-----
المقال منشور في مجلة العربي عدد ديسمبر 2016
http://tanweer.cc/readmore421.html

الخميس، 11 يوليو 2013

المجتمع وسلطة المفهوم

إذا كان الفرد يولد خاليا من أية معتقدات ومفاهيم معينة. إلا أنه بحكم وجوده الاجتماعي محكوم عليه بالتالي أن يتخذ من المنظومة الثقافية والقيمية التي يتبناها مجتمعه، معيارا للنظر إلى الأشياء والحكم عليها. إذ إن تلك المنظومات الثقافية والمعرفية لمجتمع ما، يعتبر قبولها من قبل الفرد، والخضوع لها، شرطا أساسيا لانتمائه الاجتماعي. إن زخم الأسئلة التي يبديها الطفل لا بد من أن تجد حدا لها في مرحلة ما. إذ إن هذه البذرة الفلسفية سرعان ما يتم استئصالها. لمصلحة تحقيق وجوده الاجتماعي كفرد. وستصبح المفاهيم أو التصورات التي يفكر من خلالها المجتمع سقفا أعلى أو معيارا أساسيا للحكم على الأشياء. فمفاهيم الحرية، الإنسان، الحب، الرجل، المرأة، الجنس وغيره، يقوم المجتمع وفقا لسياقات تاريخية واجتماعية ودينية معينة بالعمل على «أقنمتها» إن صح القول، والنظر إليها ككليات ثابتة. متعالية عن أي واقع موضوعي. فالإنسان كمفهوم كلي. سابق على أفراده. حسب هذا المنظور الفلسفي، بمعنى أن المفهوم أو الكلي ينظر بالأساس إلى الصفات الأساسية أو المشتركة بين أفراد معينين. فهذا المشترك بين الأشياء هو حقيقة الإنسان. فتعريف الإنسان بكونه «حيوانًا ناطقًا، أو مفكرًا. يستبعد أية صفات أخرى. فكونه أسود الشعر أو معقوف الأنف أو أبيض البشرة لا يعني شيئا بالنسبة إلى إنسانيته. إلا أن الجماعة في الحقيقة ليست تُعنَى كثيرا بتلك المقاربة الفلسفية إزاء تصور المفاهيم، فالفلسفة رغم مشروطيتها التاريخية فإنها في الوقت ذاته تعي تلك المشروطية، وبالتالي فهي تسعى جاهدة لتجاوز الحدود الثقافية والسياسية للنظر إلى الحقيقة مجردة قدر الإمكان، بل تعمد الجماعة إلى خلق مفاهيم من الممكن اعتبارها شديدة الخصوصية بالنسبة لها، وتنظر إليها كسقف أعلى للتصور البشري في ما يخص هذه المفاهيم. المجتمع نائب عن الفرد من الممكن اعتبار المجتمع ينوب عن الفرد في هذه الحالة في تشكيل المفهوم، دون أن تتاح للفرد فرصة للتحقق من المفهوم وبالتالي خلق مفاهيم خاصة به. إذ إن فرص الفرد لإعادة خلق المفاهيم سرعان ما يتم التخلي عنها حين يجد نفسه في مفترق طرق ما بين الاستمرار في محاولة اكتشاف الوجود عبر لعبة التساؤلات الفلسفية من جهة، وبين الانخراط في المجتمع الذي لا غنى عنه في تحقيق وجوده الاجتماعي من جهة أخرى. بالنظر إلى إمكانات الإنسان الفكرية واستعداداته النفسية فإنه في الواقع محكوم عليه أن يوقف عجلة التساؤلات الطفولية والاندماج في المجتمع، وما يترتب عليه من قبول منظومته الثقافية ومعاييره الأخلاقية. إن المجتمع بدوره يعي أنه بالرغم من كونه قد استطاع إيقاف العجلة الفلسفية، إلا أنه يدرك أن ذلك لا يعني أنه سيستمر في الوقوف للأبد، إذ إنها تمتلك في ذاتها قوة التحرك والسير من جديد. وإذا لم يكن ثمة ضامن في ألا يكون الطريق الذي ستسلكه تلك العجلة هو المسار الذي يسير عليه المجتمع، فإنه – المجتمع – يعمد كما سبق وأن ذكرت إلى «أقنمة» مفاهيمه وتصوراته أو الأساسي منها على الأقل. مستعينا بما يراه ملائما في هذه الحالة، والتي غالبا ما تتم المماهاة بينها وبين الدين كمرجعية ثقافية تضرب بعيدا في أغوار الضمير الإنساني. بناء على ذلك من الممكن القول إن أي مجتمع مؤسس على مفاهيم ورؤى معينة للأشياء. هي التي تفسر وتبرر وجوده كمجتمع. وبالتالي فمن الممكن لأي تغير في هذه الرؤى أو المفاهيم أن يؤثر بطريقة أو بأخرى في مفهوم الجماعة ككل. وذلك على حسب مركزية هذا المفهوم أو المعنى الذي تعطيه هذه الجماعة للأشياء أو الظواهر الاجتماعية أو الثقافية. إن التاريخ بدوره يبرر هذه الحقيقة من حيث وجود العديد من الأحداث الدرامية إن صح القول لشخصيات رفضت بشكل أو بآخر سلطة المجتمع أو الجماعة في فرض المفهوم لمصلحة تصوراتهم الخاصة لتلك المفاهيم. وكانت حدة ذلك الصراع مرتبطة بمدى مركزية تلك المفاهيم والتصورات في تأسيس الوعي الجمعي العام. قمع السلطة للتفسيرات الطارئة إن السلطة الحقيقية تكمن في فرض مفاهيم معينة للأشياء على أفراد معينين . وبالتالي فإن تبني وجهات نظر أخرى بدلا من المعنى الذي تضفيه أو بالأحرى تفرضه السلطة على الأشياء، من شأنه أن يدفع السلطة إلى قمع هذه التفسيرات والمفاهيم الطارئة. بل من الممكن النظر إلى تاريخ الصراعات من هذه الزاوية. ولتقريب الصورة أكثر، من الممكن أن نأخذ المفاهيم الدينية في القرون الوسطى كمثال لفرض المفهوم على الواقع. فقد كان معنى القول أن ثمة سلطة دينية قاهرة، وأن التصورات التي تتبناها تلك السلطة الدينية ممثلة بالكنيسة أو رجال الدين؛ بمعنى أدق، تفرض فهمها ونظرتها للأشياء على الشعب، إذ كانت هذه النظرة أداة وجدت فيها الملكيات الحاكمة آنذاك وسيلة لفرض الاستواء القانوني والثقافي، الأمر الذي يفتح الطريق إلى مزيد من تكريس السلطة الملكية آنذاك. ومما ساعد على تكريس هذه السلطة هو أن وجهة النظر الدينية لم تكن قاصرة على الجانب الأخلاقي والتشريعي فحسب، بل كانت ممتدة حتى لتلك الجوانب المتعلقة بالطبيعة وقوانينها. وكانت هذه الشمولية لها ما يبررها في ذلك الوقت. خاصة في ما يتعلق بجانب العلوم الطبيعية. إذا إن المنهج التجريبي القائم على الملاحظة والاختبار كان في الحقيقة يشق طريقة وسط طريق وعرة. فالمعرفة سواء الإنسانية أو الطبيعية كانت قائمة على منهج عقلي بحت «المنهج الاستنباطي»، حيث يسلم الفيلسوف أو رجل الدين ببعض المقدمات التي يعتبرها ضرورية، ليستنبط منها حقائق، ومن هذه الحقائق حقائق أخرى ليفسر بذلك جميع المظاهر الإنسانية والطبيعية وهو جالس على كرسيه. إعادة تقييم عندما تبلور المنهج التجريبي على يد رواد أمثال بيكون وجاليليو كبلر، فإنه لم يكن يعبر عن مجرد آراء ونظريات حول الطبيعة. مخالفة للوجهة السائدة التي كانت تتبناها السلطة الدينية آنذاك. بل كانت في الأساس إعادة تقييم جديدة للأساس الذي يجب أن تبنى عليه السلطة، ليس هذا فحسب بل وكونها قادره في الوقت نفسه على تبرير نفسها على ضوء هذا المنهج. إن الفرق المهم الذي أحدثه ظهور المنهج التجريبي هو انتقال أو تحول في مركز السلطة. انتقال من سلطة متأسسة على الكتاب المقدس أو من الوضع السياسي أو الاقتصادي أو التاريخي، إلى سلطة متأسسة على العقل والتجربة. ولكي نعرف مدى الاختلاف في المعرفة المتأسسة على السلطة وتلك المتأسسه على العقل، لنحاول فقط ولو لمرة واحدة قراءة عدة مقالات في صحيفة ما دون أن نعرف كتاب تلك المقالات ثم نعيد قراءتها مرة أخرى مرفقة بأسماء كتابها الحقيقيين. ثم نحاول تقييم مدى الاختلاف في فهم ومناقشة كل مقال قبل وبعد معرفة أسماء من كتبها. إن معرفة أن نجيب محفوظ مثلا هو كاتب العمل الفلاني يشكل نوعا من السلطة على القارئ حتى قبل أن يشرع في قراءة العمل. أما إذا انتقلنا إلى مجالات أخرى كالدين والتاريخ فإن أثر السلطة سيتضخم إلى حد أن تتجسد في شخصيات بعينها. لذلك فإن الفرد في حاجة لملكة نقدية كافية للتخلص من عبء السلطة هذا، الذي تفرضه في كثير من الأحيان أسماء شخصيات بعينها. http://www.alarabimag.com/Article.asp?Art=12178&ID=294

الأربعاء، 3 أكتوبر 2012

البعد الأيديولوجي في الثورات العربية

البعد الأيديولوجي في الثورات العربية
إذا كان كل من المثقف ورجل الشارع قادرين على ترديد أشد العبارات أيديولوجية، فإن المثقف هو الوحيد القادر على النفاذ إلى ما وراء تلك الشعارات ومعرفة الحقيقة مجردة عن أية شعارات أخرى.

تعزى القوة المحركة للإيديولوجيا كونها حسمت إشكالياتها على المستوى النظري على الأقل، الأمر الذي يجعلها قادرة على النزول للواقع لحسم إشكاليته. وهذا الحسم الذي تدعيه الإيديولوجيا هو حسم نظري فحسب، أي على مستوى الفكر والقضايا التي تصب فيه ومنه، وهو حسم غير علمي بقدر ما يصدر عن نوع من التجاوز المعرفي للفكر، مدفوعا بشيء من الدوغمائية. إذ ان الإيديولوجيا لا تفكر وعينها على الواقع فحسب، بل إنها تتجاوز الدقة في طرح إشكالياتها النظرية لصالح أفكار مسبقة وغير موعى بها غالبا، بل ولمصالح وطموحات خارج سياق الفكرة الأم التي انطلقت على أساسها الأيديولوجيا.  لذا يبدو الوصف الإيديولوجي للفكر وصفا يتداخل فيه المعرفي بالإيديولوجي. الأمر الذي يعطى للأيديولوجيا زخمها وحيويتها وسحرها أيضا، حتى لوكان ذلك على حساب عقلانيتها. في الوقت الذي يظل فيه الموقف العلمي يدور في حلقة من المناقشات والأخذ والرد بغية الوصول الى حسم إشكالياته ومن ثم تطبيقها على الواقع.
 لا يجب أن يفهم من هذا التقسيم وجود نزعات ايديولوجية وأخرى علمية معرفية خالصة. إذ من غير الممكن إيجاد معرفة متحررة تحررا كليا من الأيديولوجيا، مهما بلغت من التجرد والموضوعية، وذلك بسبب اتساع حقل الإنسانيات لرؤى وقبليات وأحكام قيمية قد لا تكون دائماً قابلة للمنع أو المراقبة، فحتى لو صح وجود معرفة متحررة من شواغل أيديولوجية ستظل رهينة التنظير. إذ أن أي ادعاء بفصل المعرفة عن الأيديولوجيا سيظل متلبسا على الدوام بدوافع أيديولوجية أيضا. إن كل ما نعنيه عند وصف ظاهرة ما بالأيديولوجية وأخرى بالمعرفية، هو وصف راجع إلى المستوى والمنسوب الطاغي على الظاهرة.
ما يحكم سرعة هذه النقلة من النظري إلى العملي أو بين الموقف العلمي والموقف الايديولوجي هو الواقع نفسه. إذ أن الصيرورة التي تبدو في الواقع، وذاك التغير المستمر، يجعل من الموقف العلمي شكاكاً في ما يبديه من أحكام حول هذا الواقع المتغير، فالمعرفة غير ممكنة في نطاق الصيرورة والتغير، حيث أنها تطلب الثبات دائما ، لذلك كان جل الموقف الفلسفي هو هروب من منطقة الصيرورة واللا تعين. إلى منطقة الوجود الواحد أو الثابت اللا متغير، ولذلك كان من المنطقي تماما ذلك النقد الموجه للمعرفة الحسية بسبب كونها تحيل على الدوام إلى عالم التغير واللا ثبات.  فكل حكم أو رأي يتبناه الموقف العلمي يجب أن يتخذ صورة كليه تنسيقة بين أجزاء ذلك الواقع المتغير. فكل حكم يصدره حول قضية ما، سرعان ما يأتي الواقع بأحداث أو يكشفه من حقائق تاريخية. تهدد ذلك البناء المعرفي. لذا تبدو فكرة هيجل عن المطلق المحرك للتاريخ فكرة مواتية في هذا الصدد، من ناحية أنها تضع التاريخ بكل ما يحمل من تناقضات واختلافات في إطار المطلق= الثابت. ربما بدا هذا الموقف من هيجل حوال فكرة المطلق وعلاقته بالتاريخ مجرد حيلة فلسفية لا أكثر. بغية إيجاد مخرج من سطوة الصيرورة والتغير على الفكر الذي لا يفتأ ينشد الثبات والاستقرار.
من الممكن القول وبشكل من التعميم، أن ثمة مظهرين يتقاسمان أي موقف أيديولوجي ، وهو أن ثمة أيديولوجيا تعي نفسها بوصفها كذلك،  تعي أن أحكامها لا يمكن ان تكون نهائية ومتعالية على الواقع التاريخي الذي تولد فيه، بمعنى أنها تعي مشروطيتها في إطار التاريخ والمكان والزمان. إلا أن هذا الوعي بالمحدودية دائما ما يأتي لاحقا، أي بعد ان تستنفذ كل طاقاتها وإمكاناتها. لذا فإن الوعي بالمحدودية والنسبية لأي موقف أيديولوجي هو وعي متأخر، بل ربما كان هذا التأخر موقفا تكتيكيا لا أكثر، بغية الانتقال إلى موقف أيديولوجي آخر بعد التأكيد على زيف ومحدودية الموقف الأيديولوجي السابق.  وكأن الوعي بمثابة تهديد لبنية الفكر الأيديولوجي القائم على التبشير والتحايل على الواقع وتبرير المواقف والآراء.
 أما المظهر الآخر للأيديولوجي، وهو وعي سائد ويكاد يكون ملازما لها، وهو كونها تفرض نفسها ومفاهيمها بوصفها مفاهيم مطلقة وغير تاريخية، وبالتالي فهي لا تقبل المساءلة والنقد. فهذا المظهر يرفض على الدوام كل دعاوى المحدودية والمشروطية التاريخية. التي سرعان ما ينكشف زيفها أدنى تأمل في تاريخ الأفكار والمذاهب الدينية والسياسية.
من المهم توضيح علاقة كل من الموقف العلمي والإيديولوجي إزاء الواقع الزمني والتاريخي. حتى نبرر مرونة الإيديولوجيا في مقابل الموقف العلمي. فنحن نزعم أن الموقف العلمي مغاير للموقف الأيديولوجي بشكل عام، لسبب وهو ان الزمن الأيديولوجي ليس هو الزمن الذي في الموقف العلمي،. مع ملاحظة ان هذا التقسيم هو تقسيم إجرائي لا أكثر، إذ أن الحكم على عليمة أو ايديولوجية فكرة أو مفكر ما، ليس حكما على جميع النسق الفكري بهذه الصفة أو تلك، بل على المساحات المعرفية التي تحتلها التوجهات الفكرية داخل الخطاب الواحد.
الزمن الأيديولوجي هو زمن الصيرورة، وليس يعنى هذا أن فكرة الصيرورة فكرة أيديولوجية، بل كل ما يعنيه هو ان الأيديولوجيا تخلق مقالتها في زمن التغير والاستمرارية، كما لا يعني هذا انها تتبنى منهجا نسبويا للأفكار الأمر الذي يرفضه النسق الفكري الأيديولوجي نفسه، بل بمعنى أنها قابلة لمختلف التشكلات والتلونات التي يزخر بها الواقع الحسي المتغير. بعبارة أخرى، فإن الزمن الأيديولوجي قائم حول مفهوم اللحظة الزمنية. وتعميمها على مختلف اللحظات الزمنية الماضي منها والآتي، وهذه التعميمية التي تقوم بها الأيديولوجيا  هي سر شبهها بالنزعة العلموية. من حيث الطابع التعميمي لها. فهي تتخذ من لحظة زمنية إطارا مرجعيا ثابتا، وتعمد في نفس الوقت إلى قولبة جميع اللحظات الزمنة الأخرى – المتغيرة – في هذا القالب الثابت. بغض النظر عن الموقع الذي تحتله تلك اللحظة الزمنية.
 حول هذه النقطة بالتحديد يرى المفكر المغربي محمد عابد الجابري، أن المفكر العربي عموما يستلهم مشروعه النهضوي من نوع من السلف. الماضي الإسلامي والمستقبل الأوربي. لذا فإن أي قراءة للفكر العربي وفق هذه المنهجية السلفية. تعبر عن موقف أيديولوجي. من حيث محاولتها تعميم فترة زمنية ما على مختلف المراحل الزمنية. إذ أنها قراءة مشغولة بالحاضر على الدوام. وواقعة تحت سلطة الضغط الذي يمارسه على الفكر والوعي. لذا فإن في أي قراءة أيديولوجية ثمة أزمة في العلاقة مع الزمن. والزمن الحاضر على وجه التحديد. سواء بتعميم مفاهيمه ومصطلحاته وبناه المعرفية على الماضي والمستقبل، أو العكس. بتعميم البنى المعرفية للماضي على الحاضر والمستقبل. وذلك رغبة في إزالة تناقضات الزمن. ليس تناقضات الزمن المرحلي – الماضي والحاضر والمستقبل – بل التناقضات المعرفية  بين هذه الأجزاء.
فإذا كان الزمن الأيديولوجي هو زمن التغير والصيرورة، فإن الزمن العلمي هو زمن الثبات واللا تغير، أو هو ينزع إلى ذلك قدر الممكن، حيث يعمد إلى تجميد الوقائع بغية دراستها والإحاطة بها. هذه  بالتحديد ما شكل (النظرة الرسمية) للفكر الإنساني على مدى التاريخ الفلسفي. أو بعبارة أخرى يمكن وصف الموقف العلمي بأنه موقف مكاني، ينظر إلى الأحداث المتزمنة في مكان أو يمكنها هو، لا فرق. كما يلاحظ برغسون. حيث لا يجد نفسه إلا في عالم الثبات. لذا من الممكن فهم كيف ضحى افلاطون بعالم البشر، عالم التغير والصيرورة. ووضع في مقابلة عالم المثل العقلية الخالدة ، منتقدا في الوقت ذاته المعرفة الحسية على أنها معرفة مشوهة لا تكشف عن معرفة ثابتة دائمة.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الموقف العلمي موقف تعوزه الحركة. اي أنه فاقد للحركة بحكم طبيعته الثبوتية، لذلك لم يستطع افلاطون أن يبعث الحياة لفكرته عن المثل الثابتة إلا بإحيائها بالأساطير والرؤى الشعرية وبعدد من الافكار الغير علمية. الأمر الذي وسم فلسفته فيما بعد بميسم اللاعقلانية، على الرغم من عقلانية الموقف الأساسي لفلسفته الرامية نحو محاكاة عالم المثل ( والذي تبدو الرياضيات كمثال واضح له )
ليس ثمة فكر علمي أو ايديولوجي صرف. بل إن كل فكرة تحتوى على هذه وتلك، إلا أن علمية أو أيديولوجية فكرة ما تتوقف على المنسوب الذي تحتله كل منهما في نظام الفكر. من الممكن أن يقال أن الأيديولوجيا بدون الاستناد إلى موقف علمي مجرد خطاب شعري وأحلام يقظة لا أكثر.. والايديولوجيا بدورها ي التي تبث الحركة في العلم وبدونها لا يمكن للأفكار العلمية ان تنتشر وتعايش الواقع البشري المتغير.
الربيع العربي : حتمية على مستوى المفهوم !
بعد هذه المقدمة، بقى أن نزيح الستار قليلا عن بعض المفاهيم الأيديولوجية في الخاصة في خطاب الربيع العربي على وجه التحديد.
أول ما يقابلنا عند البحث في النزعات الأيديولوجية في خطاب الربيع العربي هو مصطلح الربيع العربي نفسه. هذا المصطلح التبشيري المفعم بالأمل والتغيير والتطلع إلى مستقبل أفضل، يبدو وكانه سقط فجأة من السماء " بلا حسب ولا نسب "، لا يهم من أين بدأ ومن أطلقه، ما دام يخدم الفكرة التي تسعى الجماهير إلى تحقيقها. يجلي هذا المصطلح هنا مرونة العقل الإيديولوجي، فالقدرة التي تبديها في إنشاء المفاهيم والمصطلحات بل وخلق مقولات متماسكة نظريا على الأقل تكشف عن  أنه عقل خلاق مبدع حين يتعلق الأمر بتحقيق إمكاناته.
إن ما تضمنه مصطلح الربيع هنا ليس وصفا للحراك الشعبي الاحتجاجي الساعي إلى التغيير فحسب. بل إن الخطاب الأيديولوجي ينظر في الحقيقة إلى أبعد من ذلك. إنه إذ يصف هذا الحراك بالربيع وما يتضمنه من عودة الحياة والخصب والنمو في جسم الطبيعة، فهو يضمر في الوقت ذاته وصفا خريفيا لمرحلة ما قبل الحراك. وإذا كانت هذه المقاربة فرضها المفهوم الطبيعي للمناخ. بوصف مرحلة ما قبل الحراك الشعبوي بالخريف، فإنها تسكت عن ما يتضمنه المصطلح نفسه من حتمية زوال هذا الربيع لشتاء طويل نسبيا. بل وقارص في كثير من الأحيان. وإذا كانت هذه الدورة الطبيعية للمناخ تحتم علينا المرور بتلك التقلبات والتغيرات المناخية، بما فيه الخريف. فإن بنية الفكر الإيديولوجي ترفض هذ الحتمية الطبيعية لصالح حتمية من نوع آخر، منشئة بذلك دورة مناخية خاصة بها ثنائية الموسم. تبتدئ بالخريف لتمر لتعبر منه إلى ربيع لا شتاء بعده.
إلا أن الاشهر القليلة التي ستلي الثورات، والتي شهدت انتخابات حازت التيارات الإسلامية قصب السبق فيها، فاجأت الكثيرين وأسالت الكثير من الحبر حول العديد من الموضوعات كموضوع الدولة المدنية والحريات الشخصية ووضع الأقليات والأثنيات تحت حكم الأغلبية وغيرها. تتبلور جل هذه المواضيع حول مفاهيم أساسية مثل الدولة المدنية والديمقراطية. إلا أن ثمة مشترك آخر بدأ يحتل صدارة المناقشات حول أيا من تلك الموضوعات، وهو شعور بالصدمة تلك التي رافقت وصول تيارات الإسلام السياسي للحكم. من السجن والمنفى الى الحكم وسدة الرئاسة، الامر الذي أشعر كثيرين بأن الوضع أصبح مقلوبا. إلى حد أصبحت فيه التيارات المصدومة غائبة تماما عن الصورة الحقيقة للمشهد السياسي. مما جعل الكثيرين يشكون فيما إذا كانت الديمقراطية هي في الحقيقة كلة السر لمغارة علي بابا التنمية والحداثة والتقدم. وفيما إذا كانت ( دورة المناخ الأيديولوجي ) مجرد خدعة. 
لم يكن رجما بالغيب توقع فوز تيارات الاسلام السياسي  في أي منافسة انتخابية حرة ونزيه. بسبب عوامل تنتمي أغلبها إلى التركيبة الاجتماعية والثقافية للشعوب العربية . ولم يكن هذا التوقع ليتغير قبل الثورة أو بعدها. بحيث كان ذلك واضحا وضوحا كافيا. الامر الذي يجعل من الحديث عن وجود صدمة وخيبة أمل العديد من التيارات والاحزاب الأخرى أمر صادما في حد ذاته بل لا معنى له على الإطلاق. بل إن كل المؤشرات كانت تصب في مصلحة الاسلاميين. لم يكن أحد ليشك في ذلك مطلقا.
من الواضح أن منسوب الخطاب الإيديولوجي الذي رافق الثورة بل كان رافدا أساسيا نحو تدفقها وزخمها، كان مسؤولا إلى حد كبير عن غرق الكثير من النخب الثقافية والسياسية في أحلام الربيع العربي. لذلك جاء واقع فوز أحزاب الاسلام السياسي وانكشاف أقنعة الطائفية والفئوية وغيرها من دوائر الفوضى التي يخلقها أي حراك ثوري أو تغييري، بمثابة صدمة للوعي الأيديولوجي.
ربما تبدو الصدمة عند هذا الحد بمثابة ردت فعل طبيعية لاصطدام الوعي التنظيري بالوقائع الصلبة. إلا أن من غير الطبيعي أو المقبول التعامل مع هذه الصدمة التي كان الزخم الأيديولوجي مسؤولا عنها، بالمزيد من الشعارات والخطابات الأيديولوجية. والركون إلى الخطاب الشعاراتي، لا كمبدأ أصيل في كل حراك ثوري وتغييري، بل كواقع نهائي يفكر فيه ومن خلاله. لذا أصبح الفكر العربي بحسب تعبير الجابري فكرا مريضا. من حيث غلبة المنزع العاطفي الآني الذي يتلبسه ، إذ " يعبر عن أحوال نفسية وليس عن حقائق موضوعية"  وهو في الغالب  " انفعالات إزاء الأحداث وليس عن منطق الأحداث ". إن ضخامة الشعارات التي يختلقها أصبحت تحجب جل المشهد الحقيقي خلفها. لذلك فقد تعامل هذا الفكر من العديد من المفاهيم الحداثية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والحرية وغيرها كأدوات ناجزة قابلة للتطبيق دون النظر إلى كونها صيرورة في التاريخ والمجتمع والثقافة.
إن عدم فهم طبيعة كل من الخطاب الإيديولوجي والعلمي وبالتالي التفرقة بينهما، واعتبار أن كلا منهما يؤسس لمرحلة معينة في التعبير عن الوعي. مسؤول إلى حد كبير عن الصدمة التي عبرت عنها النخب السياسية والثقافية في خطاب تشاؤمي متخوف من تحول كل ذلك الكم من التطلعات والآمال التي بشرت بها الثورة إلى تكريس نسخ أخرى من الاستبداد السابق.
 
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=326726